Page 113 - Amna_ Hiat Arabic
P. 113

‫المهمـــة مع أطفاله الخمســـة‪ ،‬هـــذا بالإضافة لتعجبه مـــن قدرتها على‬                      ‫علـــى مســـتوى الأفـــراد؟ ومـــا التحـــول الـــذي طـــرأ فـــي علاقتنـــا بربنـــا‬
‫احتمـــال ضوضائهـــم وصراخهـــم ولعبهـــم وتلبيـــة طلباتهـــم بصبر‬                         ‫باعتبارنـــا مســـلمين؟ هـــل تكشـــف لنـــا بعدنـــا عـــن الله وانشـــغالنا‬
‫بالـــغ واســـتجابة عالية‪ ،‬وهـــو الذي بعد جلوســـه في البيـــت لثلاثة أيام‬                 ‫بالســـعي نحـــو تلبيـــة متطلباتنـــا الحياتيـــة واجتهادنـــا في إشـــباعها‬
‫متواصلـــة كاد يفقـــد عقله مـــن إزعاجهم وطلباتهـــم‪ ،‬حتى تعلل في‬                          ‫على حســـاب علاقتنا بخالقنا ومســـتويات إيماننا وإحســـاننا واكتفائنا‬
‫اليـــوم الرابـــع بالخروج لقضـــاء مهـــام ضرورية لينعـــم بالهـــدوء قلي ًلا‬              ‫بأننـــا مســـلمون؟ وهـــل أتاحـــت لنـــا هـــذه الجائحـــة فرصـــة لتصحيـــح‬
‫بعيـــ ًدا عن إزعاجهم‪ ،‬ولما ســـألها كيف تحتمل ذلك؟ قالت ببســـاطة‪:‬‬                         ‫مســـار علاقتنا بـــالله فلجأنا إليـــه ضارعين خائفين خاضعيـــن متذللين‬
‫هـــم أبنائي وقرة عيني‪ ،‬وتســـاءل‪ :‬كيف وهم أبنائي أي ًضا لا أســـتطيع‬                       ‫وطرحنـــا عنـــا أثـــواب التباهي والنفـــوذ والتســـلط وملذات الانشـــغال‬
‫احتمـــال كل ذلـــك؟‪ ،‬فيـــا عجبـــي من (ســـوبر مامـــا) وتحية تقديـــر لها‪.‬‬               ‫والانصراف لغيره‪ ،‬وســـكبنا العبرات وتلذذنا بالســـجود وتذوقنا حلاوة‬
‫ولعـــل هـــذا المثـــال ليـــس ببعيـــد عـــن كثيريـــن منـــا الذيـــن أدركـــوا‬          ‫القـــرآن والذكـــر ودعـــاء الخلـــوات‪ ،‬وهل اتســـق مفهـــوم الإيمـــان عندنا‬
‫حجـــم المســـؤولية والمهام التـــي تقوم بها النســـاء زوجـــا ٍت وأمها ٍت‬                  ‫بمفهـــوم إعمارنـــا لـــأرض واهتمامنا بالآخريـــن بذات القـــدر الذي نهتم‬
‫ومد ّبـــرا ٍت فـــي إدارة المنـــزل ورعايـــة الأطفال والاســـتذكار لهـــم‪ ،‬خاصة‬           ‫فيه بأنفســـنا؟ هـــل تجردنا في هـــذه الجائحة مـــن أنان ّيتنا وانحســـارنا‬
‫فـــي ظـــروف التعليـــم عن بعد الـــذي ح َّمـــل الأمهات العـــبء الأكبر من‬
‫العمليـــة التعليميـــة‪ ،‬لكـــن ليس هـــذا فقط الاكتشـــاف الوحيـــد الذي‬                                ‫فـــي ذواتنـــا إلـــى استشـــعار الآخرين والإحســـاس بهم؟‬
‫تجســـد لنا فـــي مدة إقامتنـــا الجبرية فـــي منازلنا التـــي أوضحت حجم‬                    ‫وهـــل تبـــدت لنـــا أبعـــاد الأكذوبـــة التي عشـــنا نقنـــع بها أنفســـنا بأن‬
‫التباعـــد العاطفـــي بيننـــا كأزواج‪ ،‬عندما اجتمعنا لفترات طويلة ســـاد‬                    ‫انشـــغالنا واجتهادنا هو من أجل ضمان الحياة الكريمة لأسرنا وأبنائنا‬
‫فيهـــا الصمـــت لغيـــاب الاهتمامـــات والموضوعـــات المشـــتركة التـــي‬                   ‫الذيـــن هـــم أغلى كنوزنا وأقـــدس واجباتنا! فلمـــا جمعتنا بهم ظروف‬
‫تجمعنـــا فكر ًّيـــا ومعنو ًّيـــا‪ ،‬وارتفعـــت علـــى إثرهـــا أحيا ًنـــا وتيـــرة النقد‬  ‫العـــزل الاجتماعي ولزمنا منازلنا تكشـــف لنا مقدار تباعدنا وهشاشـــة‬
‫والخلافـــات الناتجـــة عـــن الاحتكاك المباشـــر وربما تزايدت لـــدى البعض‬                 ‫البيـــوت التـــي تظلنـــا وضعـــف العلاقـــات التـــي تجمعنـــا‪ ،‬وأدركنـــا أننا‬
‫إلـــى مســـتوى الشـــجار الحـــاد الذي أثـــر على مســـتوى اســـتقرار بعض‬                  ‫ضيعنـــا جوهر واجبات الأبـــوة في صياغة عقولهـــم وقلوبهم بالمحبة‬
                                                                                            ‫والاهتمـــام والتربية وغرس القيم والقدوة الحســـنة‪ ،‬وانشـــغلنا عنها‬
                                                          ‫الأسر‪.‬‬                            ‫بقشـــور توفيـــر الاحتياجـــات المادية وتأميـــن المســـتقبل المالي لهم‪.‬‬
‫الشـــاهد فـــي الأمـــر أن هـــذه الأزمـــة جعلتنـــا نـــدرك النعـــم التـــي كنـــا‬      ‫فأدركنـــا كـــم نحـــن غربـــاء عنهـــم‪ ،‬لا يجمعنـــا بهـــم شـــيء ولا نعلـــم‬
‫نملكهـــا ونظنها مـــن البديهيـــات‪ ،‬والنعم التي لم نقدرهـــا أو نعرها‬                      ‫عنهـــم كثيـــ ًرا حتى باتـــت بيوتنـــا زنازين لنا تجمـــع غربـــاء لا تجمعهم‬
‫اهتما ًمـــا ســـاب ًقا‪ ،‬كمـــا جعلتنا نـــدرك طبيعـــة حجمنا وحـــدود علاقاتنا‬             ‫لغـــة ولا فكـــر ولا اهتمامـــات‪ .‬فهـــل اغتنمنـــا فرصة وجودنـــا وأعدنا مد‬
‫مـــع خالقنـــا وأســـرنا وذوينا وتجـــاه أعمالنـــا‪ ،‬والأهم أنهـــا جعلتنا ندرك‬            ‫جســـور المحبة والمشـــاركة وتعارفنا من جديد وتشـــاركنا الاهتمامات‬
‫أهميـــة الإنســـان فـــي عالـــم تعلـــو لـــدى البعـــض فيـــه قيمـــة المـــال‬           ‫واســـتمعنا لأبنائنـــا لندرك كم كبـــروا وكم ضيعنا لحظات الاســـتمتاع‬
‫والمنافـــع الخاصـــة علـــى حســـاب حتـــى صحـــة الشـــعوب‪ ،‬بينمـــا تعلو‬                 ‫بهـــم ومعهـــم! فلعل الجائحـــة فرصة أخـــرى لتوطيد علاقتنـــا بأبنائنا‬
‫فيـــه قيـــم الغيريـــة والإيثار لـــدى آخريـــن حتى يض ّحـــوا فيـــه بأرواحهم‬
‫وليـــس بأموالهـــم وثرواتهم في ســـبيل إنقاذ حياة الإنســـان‪ ،‬ويكفي‬                                               ‫وأداء أدوارنـــا تجاههـــم على النحـــو الصحيح‪.‬‬
‫أننا رأينـــا حكومات تفضل المصالـــح الاقتصادية والأرباح والاســـتثمارات‬                    ‫وهـــل أتاحت لنـــا الجائحة أن ندرك ك َّم المســـؤوليات الملقاة على عاتق‬
‫علـــى حيـــاة شـــعوبها‪ ،‬بينمـــا أنعمـــت هـــذه الأزمـــة علينـــا بمعرفـــة‬             ‫زوجاتنا اللائي كن نظنهن لا يفعلن شـــي ًئا سوى الشكوى والطلبات؟‬
‫حكومـــات تكبدت الخســـائر الاقتصادية ودفعت مـــن خزينتها الخاصة‬                            ‫فقـــد أتـــاح لنا مكوثنـــا في المنـــزل أن نرقب عن كثب المهـــام اليومية‬
‫قبـــل العامـــة لتدعـــم تباعـــد شـــعوبها الاجتماعـــي‪ ،‬وتحملـــت تقديم‬                  ‫التـــي تقـــع علـــى عاتـــق الزوجة فـــي إدارتهـــا لشـــؤون المنزل‪ ،‬ولســـت‬
‫كل العـــون المـــادي والصحـــي من أجـــل ســـامتهم ومعافاتهم‪ ،‬وهي‬                          ‫أعنـــي الطبـــخ والغســـل والكنـــس والتنظيـــف الـــذي كثيـــ ًرا مـــا كنـــا‬
‫نعمـــة أخرى تجعلنـــا ندرك أنه وفي ظـــل هذه الجائحة لـــم يعد العالم‬                      ‫نســـمع الشـــكوى منه ونســـتخف ببســـاطته‪ ،‬حتى اختبـــر البعض منا‬
‫مصن ًّفـــا لعالـــم أول نتمنى الوجود فيه وعالم ثالـــث نفر منه‪ ،‬ولم تعد‬                    ‫ممارســـة بعضه مـــن باب الملـــل وعدم الانشـــغال بشـــيء‪ ،‬فتبدت لنا‬
‫الفـــروق مرتبطـــة بالمـــال والمكانـــة الاجتماعيـــة بين البشـــر‪ ،‬ولم يعد‬               ‫صعوبتـــه وتعجبنـــا من قـــدرة زوجاتنا علـــى القيام بكل هـــذه المهام‬
‫المعيـــار التحضر أو التخلـــف؛ فهذه باتت لهـــا دلالات قيمية واجتماعية‬                     ‫باســـتمرار وعلـــى الدوام‪ .‬وليـــت الأمر توقـــف عند هذا الحد بـــل أدركنا‬
‫وثقافيـــة مختلفـــة‪ ،‬ولم يعد تقدم العمـــر هو فيصل البقـــاء أو الفناء‪،‬‬                    ‫كـــ ّم المجهـــود الـــذي تبذلـــه الأم فـــي تعليم الأبنـــاء والاســـتذكار لهم‬
‫ليـــس فقط على مســـتوى الـــدول والتحالفـــات الكبرى‪ ،‬بـــل أي ًضا على‬                     ‫ومتابعة دروســـهم خاصـــة أعباء التدريـــس المضاعفة التـــي فرضتها‬
‫مســـتوى الأفـــراد والأســـر تتيـــح لنـــا جائحـــة كورونـــا الفرصـــة لتصحيح‬            ‫الظـــروف عبر التعليـــم الإلكترونـــي الذي َح ّمـــ َل الأمهات واجبـــات أكثر‬
                                                                                            ‫فـــي الإشـــراف والمتابعـــة بـــل والتدريـــس كذلك‪ ،‬وقـــد أخبرنـــي قريب‬
                                     ‫المســـار فهل نحـــن فاعلون؟‬                           ‫لـــي بأنـــه مـــا كان يظـــن أن زوجته تبـــذل كل هـــذا الجهد فـــي متابعة‬
                                                                                            ‫الأبنـــاء والمذاكـــرة لهـــم‪ ،‬فقـــد اختبـــر ذلك ليـــوم واحد فقـــط وكاد أن‬
                                                                                            ‫يفقـــد عقله‪ ،‬وأنه ســـيبقى ممت ًّنا طـــوال عمره لزوجتـــه لقيامها بهذه‬

‫‪113‬‬
   108   109   110   111   112   113   114   115   116   117   118